سلالة الصديق

history.jpg

تراث ، وتاريخ، ومآثر، ومفاخر، ومناقب القبائل والأسر والبيوت البكرية الصديقية القرشية على مستوى العالم .

حقيقة تاريخية: (مسجد أبي بكر) بمكة هو أول مساجد الإسلام وليس قباء !

حقيقة تاريخية، واضحة جليّة، قد تغيب عن كثير من الناس، ينقلها إليكم الباحث البكري "أحمد فرغل الدعباسي"، مفادها أن أقدم وأول مسجد بُني في الإسلام لم يكن مسجد قباء ! وإنما هو مسجد آخر .. أقدم وأصغر ؛ بناه أبو  بكر الصديق -  رضي الله عنه  - بفناء بيته بمكة المكرمة قبل الهجرة !

إن مما تعارف عليه الناس خلفاً عن سلف، منذ أكثر من ألف وأربعمائة عام ؛ أن أول مسجد بُني في الإسلام "مسجد قباء"، الذي شُيِّد في مطلع العام الهجري الأول، بعد قدوم النبي - صلى الله عليه وسلم – وصاحبه أبو بكر الصديق إلى المدينة المنورة ونزولهم بقباء.

غير أنني حينما تأملت سيرة الصديق أبي بكر – رضي الله عنه – وأمعنت فيها التدقيق دهشت إذ علمت أن هناك مسجد آخر أقدم من مسجد قباء !، مسجد بمكة المكرمة ، بخطة بني جمح القرشيين، وبالتحديد بفناء دار أبي بكر الصديق الذي كان يسكنه هناك وسط ديار الجُمحيين قبل الهجرة النبوية، فقد كان للصديق بمكة دارين، إحداهما بخطة قومه بني تيم بن مرة "ولعله الذي تركه لأبيه أبا قحافة"، والآخر بمنازل بني جمح وهو الذي خرج منه النبي - صلى الله عليه وسلم - وصاحبه في رحلة الهجرة.

مسجد ابي بكر بمكة.pngمسجد أبي بكر الصديق - الذي بخطة بني جمح - بمكة المكرمة قبل هدمه منذ سنوات

تحدثت المراجع التاريخية بكثرة عن ذلك ( المسجد البكري الصديقي المكي ) ، المسجد الصغير حجماً ، الكبير قدراً وآثراً. وممن ذكر أمر "مسجد أبي بكر الصديق" هذا:

أولاً: الإمام محمد بن إسماعيل البخاري (ت 256 هـ) في صحيحه، حيث قال([1]): حدثنا يحيى بن بكير، حدثنا الليث، عن عقيل، قال ابن شهاب: فأخبرني عروة بن الزبير، أن عائشة رضي الله عنها، زوج النبي صلى الله عليه وسلم، قالت: لم أعقل أبوي قط إلا وهما يدينان الدين، وقال أبو صالح: حدثني عبد الله، عن يونس، عن الزهري، قال: أخبرني عروة بن الزبير، أن عائشة رضي الله عنها، قالت: لم أعقل أبوي قط إلا وهما يدينان الدين، ولم يمر علينا يوم إلا يأتينا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفي النهار، بكرة وعشية، فلما ابتلي المسلمون، خرج أبو بكر مهاجراً قِبَل الحبشة، حتى إذا بلغ برك الغماد لقيه ابن الدغنة، وهو سيد القارة، فقال: أين تريد يا أبا بكر؟ فقال أبو بكر: أخرجني قومي، فأنا أريد أن أسيح في الأرض، فأعبد ربي، قال ابن الدغنة: إن مثلك لا يُخرَج ولا يَخرُج، فإنك تكسب المعدوم، وتصل الرحم، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق، وأنا لك جار، فارجع فاعبد ربك ببلادك.

فارتحل ابن الدغنة، فرجع مع أبي بكر، فطاف في أشراف كفار قريش، فقال لهم: إن أبا بكر لا يخرج مثله ولا يخرج، أتخرجون رجلاً يكسب المعدوم، ويصل الرحم، ويحمل الكل، ويقري الضيف، ويعين على نوائب الحق؟، فأنفذت قريش جوار ابن الدغنة، وآمنوا أبا بكر، وقالوا لابن الدغنة: مر أبا بكر، فليعبد ربه في داره، فليصل، وليقرأ ما شاء، ولا يؤذينا بذلك، ولا يستعلن به، فإنا قد خشينا أن يفتن أبناءنا ونساءنا، قال ذلك ابن الدغنة لأبي بكر، فطفق أبو بكر يعبد ربه في داره، ولا يستعلن بالصلاة، ولا القراءة في غير داره.

ثم بدا لأبي بكر، ( فابتنى مسجداً بفناء داره وبرز ، فكان يصلي فيه، ويقرأ القرآن ) ، فيتقصف عليه نساء المشركين وأبناؤهم، يعجبون وينظرون إليه، وكان أبو بكر رجلا بكاء، لا يملك دمعه حين يقرأ القرآن، فأفزع ذلك أشراف قريش من المشركين، فأرسلوا إلى ابن الدغنة، فقدم عليهم فقالوا له: إنا كنا أجرنا أبا بكر على أن يعبد ربه في داره، ( وإنه جاوز ذلك، فابتنى مسجداً بفناء داره ، وأعلن الصلاة والقراءة ) ، وقد خشينا أن يفتن أبناءنا ونساءنا، فأته، فإن أحب أن يقتصر على أن يعبد ربه في داره فعل، وإن أبى إلا أن يعلن ذلك، فسله أن يرد إليك ذمتك، فإنا كرهنا أن نخفرك، ولسنا مقرين لأبي بكر الإستعلان.

قالت عائشة: فأتى ابن الدغنة أبا بكر، فقال: قد علمت الذي عقدت لك عليه، فإما أن تقتصر على ذلك، وإما أن ترد إلي ذمتي، فإني لا أحب أن تسمع العرب، أني أخفرت في رجل عقدت له، قال أبو بكر: إني أرد إليك جوارك، وأرضى بجوار الله.

ثانياً: عبد الرزاق بن همام بن نافع الحميري الصنعاني (ت 211 هـ) في مصنفه([2]).

ثالثاً: أبو بكر أحمد العتكي المعروف بالبزار (ت 292 هـ) ، في مسنده([3]).

رابعاً: أبو حاتم محمد بن حبان الدارمي التميمي (ت 354 هـ) في صحيحه([4]).

خامساً: أبو نعيم الأصبهاني (ت 430 هـ) في حلية الأولياء([5]).

سادساً: قوام السنة إسماعيل بن محمد بن الفضل الطلحي القرشي الأصبهاني (ت 535 هـ) في سير السلف الصالحين([6]).

سابعاً: أبو القاسم علي بن الحسن بن هبة الله المعروف بابن عساكر (ت 571 هـ) في تاريخ دمشق([7]).

ثامناً: أبو العباس محب الدين الطبري (ت 694 هـ) في الرياض النضرة في مناقب العشرة([8]).

تاسعاً: شمس الدين ابن قايماز الذهبي (ت 748 هـ) في كلاً من: سير أعلام النبلاء، وتاريخ الإسلام([9]).

عاشراً: أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي المعروف بالحافظ ابن كثير (ت 774 هـ) في البداية النهاية، إلا أنه نقل عن ابن إسحاق بسنده عن عائشة، أن ابن الدغنة ليس سيد القارة إنما هو "أخو بني الحارث بن بن بكر بن عبد مناة بن كنانة وهو يومئذ سيد الأحابيش". قلت: هذا غلط واضح.

كما أنه أفاد بكون موضع دار أبي بكر ذاك كان بخطة بني جمح وليس بديار التيميين قومه([10]).

تلك عشرة كاملة، نسأل الله أن يكون فيها الكفاية.

تتمة وحديث ذو شجون !

إن مما ينبغي ذكره أنه بمكة المكرمة مسجد مبني مكان بيت أبي بكر الصديق الذي بخطة بني جُمح، فكان هذا المسجد إمتداد زماني ومكاني للمسجد القديم الذي إبتلع بقية بيت أبي بكر الصديق، البيت الذي كان بفناءه أول مساجد الإسلام قاطبة، المسجد الذي بناه سيدنا أبو بكر الصديق في زمان كان الإسلام فيه ضعيفاً ، ولم يك أحد يجرؤ يُصلّ لله علانية ببطحاء مكة، مسجد بناه الصدّيق ، القوي في دينه ، الضعيف في بدنه .. مُغالباً فيه وبه كفار مكة أجمعهم، وداعياً فيه ومنه إلى الله ، ومُستبدلاً به جوار ابن الدغنة سيد القارة بجوار الله رب العالمين سبحانه.

ولهذا المسجد أشباه ونظائر، منها مساجد القبائل والعشائر، الكبيرة منها والصغيرة، فقد جائت في الحديث الشريف تلك التسميات:

ففي صحيح البخاري : مسجد بني زريق، مسجد بني سالم، مسجد عبد القيس، مسجد الشجرة، مسجد بني رفاعة.

وفي صحيح مسلم: مسجد دار أبا سلمة، مسجد بني زريق.

وهذا المسجد البكري تنطبق عليه شروط أن يكون مسجداً ! ، فهو مكان مخصص بعينه للصلاة والسجود، مُمهّد الأرض، مُحاط ببناء (تقول عائشة: فابتنى بفناء داره مسجداً)، يُؤدّي الصلاة فيه جماعة، فبيت أبي بكر الصديق كان بيت من بيوت الإيمان الخالصة، ففيه من المؤمنين (قبل الهجرة): (أبو بكر الصديق، أم الخير سلمى بنت صخر والدة أبي بكر، أم رومان زوجته، عبد الله بن أبي بكر، أسماء، عائشة) هؤلاء ستة أفراد، وربما كان سابعهم عامر بن فهيرة. فإذن هذا المسجد نرى أنه قد توافرت فيه شروط كونه مسجداً، فهو أول مسجد في الأرض يُبنى بعد بعثة رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم.

وعند أهل اللغة أن المسجد هو المكان المخصص للسجود والصلاة "بيت الصلاة"، وهو "محراب البيت" المخصص لصلاة أهل كل بيت، وهو مُصلّى الجماعات:

فيقول أبو منصور الهروي (ت 370 هـ) في تهذيب اللغة([11]): (فأمّا المَسْجَدُ منَ الأَرْض فموضعُ السُّجْودِ نفسُه. وروى أَبُو الْعَبَّاس عَن ابْن الْأَعرَابِي قَالَ: مَسْجَدٌ بِفَتْح الْجِيم: مِحْرَابُ الْبيُوت، ومُصَلّى الجماعاتِ: مَسْجِدٌ بِكَسْر الجيمِ، والمَسَاجِدُ: جَمعُهُما. والمَسَاجِدُ أَيْضا: الآرَابُ الَّتِي يُسْجَدُ عَلَيْهَا) اهـ.

وذكر أبو الحسن علي ابن سيده (ت 458 هـ) في المحكم والمحيط الأعظم([12]): (المَسْجِد: الْموضع الَّذِي يُسْجَد فِيهِ. وَقَالَ الزّجاج: كل مَوضِع يتعبد فِيهِ فَهُوَ مسجِد أَلا ترى أَن النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "جعلت لي الأَرْض مسجِداً وطَهوراً" وَقَوله عز وَجل: (ومن أظلم مِمّن مَنَع مَسَاجِد الله)) اهـ. وكذا ذكر مثله جمال الدين ابن منظور (ت 711 هـ) في لسان العرب.

ويذكر محمد مرتضى الزبيدي (ت 1205 هـ) في تاج العروس([13]): (والمسجد بكسر الجيم: أي موضع السجود نفسه. وفي كتاب (الفروق) لابن بري: المسجد: البيت الذي يسجد فيه، وبالفتح: موضع الجبهة. وقال الزجاج: كل موضع يتعبد فيه فهو مسجد، (ويفتح جيمه) . قال ابن الأعرابي: مسجد، بفتح الجيم، محراب البيت ومصلى الجماعات) اهـ .

خاتمة: إلا أنه قد تم تهديم هذا المسجد في التوسعات الكبيرة للحرم المكي، وحالياً بُني في موضعه أحد أبراج فندق هيلتون العالمي، المجاور لمبنى برج الساعة، قبالة الركن اليماني، وسمعت أنه تم إنشاء مسجد يحمل اسم (مسجد أبي بكر الصديق) بالطابق الأرضي بأحد أبراج الفندق هذا، وفي نفس موضع مسجد وبيت أبي بكر الصديق ... فرضي الله عنك يا صاحب نبينا صلى الله عليه وآله وسلم، والحمد لله رب العالمين.

 

إعداد: أحمد فرغل الدعباسي البكري

رئيس لجنة تحقيق الأنساب بمشيخة السجادة البكرية

بتاريخ يوم الإثنين 15 شوال سنة 1438 هـ / الموافق 10 يوليو سنة 2017 م

 


([1]) صحيح البخاري 3/ 98

([2]) مصنف عبد الرزاق الصنعاني 5/ 384

([3]) مسند البزار 18/ 189

([4]) صحيح ابن حبان 15/ 285

([5]) حلية الأولياء وطبقات الأصفياء 1/ 29

([6]) سير السلف الصالحين صـ 54

([7]) تاريخ دمشق لابن عساكر 30/ 76-77

([8]) الرياض النضرة في مناقب العشرة 1/ 96-97

([9]) سير أعلام النبلاء 1/ 312 ، تاريخ الإسلام 1/ 670-671

([10]) البداية والنهاية 3/ 117-118

([11]) تهذيب اللغة 10/ 301

([12]) المحكم والمحيط الأعظم 7/ 261 ، لسان العرب 3/ 204

([13]) تاج العروس من جواهر القاموس 8/ 174