سيدنا أبو بكر الصديق رضي الله عنه
أبو بكر الصديق([1]): سيدنا أبو بكر الصديق رضي الله عنه، واسمه: عبد اللَّه بن أبى قحافة، واسمه: عثمان بن عامر بن عمرو السيال بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معدّ بن عدنان العدناني المُضري الكناني القرشي التيمي، من ذرية إسماعيل الذبيح بن إبراهيم الخليل عليهما السلام. ويلتقي نسبه مع نسب سيدنا رسول الله في جده السادس "مرة بن كعب" فجد رسول الله: "كلاب بن مرة" وهو أخي "تيم بن مرة" جد أبي بكر الصديق.
والدة أبي بكر الصديق: هي أم الخير سلمى - وقيل ليلى - بنت صخر بن عامر بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة القرشية التيمية، وهي صحابية رضي الله عنها، وهي ابنة عم أبيه. ووُلِد أبي بكر الصديق بمكة المكرمة سنة 51 قبل الهجرة / 573 م، ونشأ سيداً من سادات قريش، وغنياً من كبار موسريهم، وعالماً بأنساب القبائل وأخبارها، وكانت العرب تلقبه بعالم قريش، وحرم على نفسه الخمر في الجاهلية فلم يشربها.
صحب أبو بكر الصديق رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم قبل البعثة، وهو أول من أسلم من الرجال، وكان يُقال له: عتيق، لجماله وعتاقة وجهه، وقيل لأن نسبه لا يوجد فيه شيء يعاب به، أو لأنه كان له أخوان يقال لأحدهما: عتيق، والآخر معتق، فمات عتيق قبله فسمى بإسمه، وقيل إنما سمي عتيقاً لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال له: "أنت عتيق الله من النار". وعن عائشة رضي الله عنها([2]): أن أبا بكر دخل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال له رسول الله: "أنت عتيق من النار" فمن يومئذ سُمّي عتيقاً.
وقيل كُنى بأبي بكر لإبتكاره الخصال الحميدة، وسُمّي صِدّيقاً لمبادرته إلى تصديق رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم في كل ما جاء به، ولتصديقه له في خبر الإسراء. قالت عائشة رضي الله عنها([3]): لما أسري بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المسجد الأقصى أصبح يتحدث الناس بذلك، فارتد ناس ممن كانوا آمنوا به وصدقوه، وسمعوا بذلك إلى أبي بكر رضي الله عنه، فقالوا: هل لك إلى صاحبك يزعم أنه أسري به الليلة إلى بيت المقدس، قال: أو قال ذلك؟ قالوا: نعم، قال: لئن كان قال ذلك لقد صدق، قالوا: أو تصدقه أنه ذهب الليلة إلى بيت المقدس وجاء قبل أن يصبح؟ قال: نعم، إني لأصدقه فيما هو أبعد من ذلك، أصدقه بخبر السماء في غدوة أو روحة، فلذلك سُمي أبو بكر الصديق.
وقال أبو محجن الثقفي:
وسميت صديقاً وكل مهاجر |
|
سواك يسمى باسمه غير منكر |
هو ثاني إثنين في الإسلام، وثاني إثنين في الغار، وثاني إثنين في المشورة يوم بدر، وثاني إثنين في العريش، وثاني إثنين في الخلافة، وثاني إثنين في القبر، وثاني إثنين في الجنة رضي الله عنه. كان أبو بكر الصديق صديقاً لرسول الله قبل البعثة وهو أصغر منه سناً بثلاث سنوات، وكان يُكثر غشيانه في منزله ومحادثته، فلما أسلم آزر النبي صلى الله عليه وآله وسلم في نصر دين الله تعالى بنفسه وماله، وكان له لما أسلم أربعون ألف درهم أنفقها في سبيل الله مع ما كسب من التجارة. قال تعالى ( وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى * وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى ) [الليل: 17-21]، ولقد قال المفسرون أن المعني في الآية هو: أبو بكر الصديق([4]).
ورد في التوارة في سفر المزامير، في المزمور الثاني والسبعين، قطعة نظن أنها تشير إلى سيدنا أبي بكر الصديق وإلى مدى انتشار فتوحات الإسلام في عصره، وهذا ما جاء بالمزمور: (يشرق في أيامه الصديق وكثرة السلام إلى أن يضمحل القمر * ويملك من البحر إلى البحر، ومن النهر إلى أقاصي الأرض * أمامه تجثو أهل البرية، وأعداؤه يلحسون التراب)، ولهذا القول المذكور بسفر المزامير شاهد تاريخي يُفيد بوجود ذِكر لأبي بكر الصديق في كتب أهل الكتاب، فقد روى عبد الله بن مسعود عن أبي بكر الصديق رضي الله عنهما أنه قال([5]): (خرجت إلى اليمن في تجارة قبل مبعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم فنزلت على شيخ من الأزد([6]) عالم قد قرأ الكتب وحوى علماً كثيراً وأتى عليه من السن ثلاثمائة وتسعون سنة، قال فتأملني وقال أحسبك حرمياً فقلت نعم أنا من أهل الحرم، قال أحسبك تيمياً قلت نعم أنا من "تيم بن مرة" أنا عبد الله بن عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم، قال بقيت لي فيك واحدة قلت ما هي قال اكشف لي عن بطنك قلت لا أفعل أو تخبرني لم ذاك، قال إني أجد في العلم الصحيح الصادق أن نبياً يبعث من الحرم يعاونه على أمره فتى وكهل، أما الفتى فخواض غمرات وكشاف معضلات، وأما الكهل فأبيض نحيف على بطنه شامة وعلى فخذه اليسرى علامة فلا عليك أن تريني ما خفي علي، قال فكشفت له عن بطني فرأى شامة سوداء فوق سرتي فقال هو أنت ورب الكعبة وإني متقدم إليك في أمر فاحذره فقلت وما هو فقال إياك والميل عن الهدى وتمسك بالطريقة المثلى وخف الله فيما أعطاك وخولك، قال أبو بكر رضي الله عنه فقضيت باليمن أربي ثم أتيت الشيخ لأودعه فقال أحامل أنت مني أبياتاً إلى ذلك النبي فقلت نعم فأنشأ يقول شعراً طويل) اهـ.
وعن الربيع بن أنس أنه قال: مكتوب في الكتاب الأول (مثل أبو بكر كمثل القطر، أينما وقع نفع). وقال: نظرنا في صحابة الأنبياء فما وجدنا نبياً كان له صاحب مثل أبي بكر([7]).
وجاء عن سعيد ابن المسيب، أن زيد بن خارجة الأنصاري، ثم من بني الحارث بن الخزرج، توفي زمن عثمان بن عفان، فسجي بثوب، ثم إنهم سمعوا جلجلة في صدره، ثم تكلم فقال: (أحمد أحمد في الكتاب الأول، صدق صدق. أبو بكر الصديق، الضعيف في نفسه، القوي في أمر الله، كان ذلك في الكتاب الأول، صدق صدق. عمر بن الخطاب القوي الأمين في الكتاب الأول، صدق صدق. عثمان بن عفان على منهاجهم. مضت أربع سنين وبقيت اثنتان، أتت الفتن، وأكل الشديد الضعيف، وقامت الساعة، وسيأتيكم عن جيشكم خبر، بئر أريس، وما بئر أريس). ثم أردف سعيد بن المسيب قائلاً: (ثم هلك رجل من بني خطمة فسجى بثوب فسمعوا جلجلة في صدره، ثم تكلم فقال: إن أخا بني الحارث بن الخزرج صدق صدق)([8]).
كان أبو بكر رضي الله عنه من رؤساء قريش في الجاهلية محبباً فيهم مؤلفاً لهم وكانت إليه الأشناق في الجاهلية([9])، كان إذا حمل شيئاً من الديات أو المغارم صدقته قريش وأمضوا حمالته وحمالة من قام معه على إحتمالها، وإن احتملها غيره خذلوه ولم يصدقوه. فلما جاء الإسلام سبق إليه وأسلم على يده جماعة لمحبتهم له وميلهم إليه، حتى أنه أسلم على يده خمسة من العشرة المبشرين بالجنة. قال الشعبي([10]): سألت ابن عباس من أول من أسلم؟ قال أبو بكر، أما سمعت قول حسان:
إذا تذكرت شجواً من أخي ثقة |
|
فاذكر أخاك أبا بكر بما فعلا |
كان أبو بكر الصديق أعلم العرب بأنساب قريش وما كان فيها من خير وشر، وكان تاجراً ذا ثروة طائلة وكريماً حسن المجالسة، عالماً بتعبير الرؤيا، ولما أسلم جعل يدعو الناس إلى الإسلام. قال ابن إسحاق([11]): (بلغني أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال ما دعوت أحداً إلى الإسلام إلا كانت عنده كبوة ونظر وتردد إلا ما كان من أبي بكر - رضي الله عنه - ما علم عنه حين ذكرته له أي أنه بادر به) اهـ.
كان أبو بكر بمنزلة الوزير من رسول الله فكان يشاوره في أموره كلها. ولما أشتد أذى كفار قريش لم يهاجر إلى الحبشة مع المهاجرين بل بقي مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهاجر معه إلى المدينة تاركاً عياله وأولاده، وآخذاً معه كل ماله، ولم يترك لأولاده شيء، وأقام معه في الغار ثلاثة أيام. قال الله تعالى: ( ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ) [التوبة: 40].
ولما كانت الهجرة جاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى أبي بكر وهو نائم فأيقظه، وقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد أذن لي في الخروج. قالت عائشة: فلقد رأيت أبا بكر يبكي من الفرح ثم خرجا حتى دخلا الغار فأقاما فيه ثلاثة أيام. قال تعالى: ( إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) [التوبة:40]. وقد دلت هذه الآية على فضيلة أبي بكر لأن رسول الله لولا ثقته التامة بأبي بكر لما صاحبه في هجرته ولما اختصه بهذا، ولقد سمّاه الله تعالى: ثاني اثنين. وقال الشعبي عن هذه الأية([12]): عاتب الله عز وجل أهل الأرض جميعاً - في هذه الآية - إلا أبا بكر رضي الله عنه.
وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يكرمه ويجله ويعرف أصحابه مكانه ويثني عليه في وجهه، واستخلفه في الصلاة وشهد مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بدراً وأحداً والخندق وبيعة الرضوان بالحديبية وخيبر وفتح مكة وحنيناً والطائف وتبوك وحجة الوداع.
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم([13]): "لو كنت متخذاً خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً". ودفع أبو بكر عقبة بن أبي معيط عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما خنق رسول الله وهو يصلي عند الكعبة خنقاً شديداً، وقال: يا قوم ( أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ ) [غافر: 28]. وروى سفيان بن عيينة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، قال: أسلم أبو بكر، وله أربعون ألفا أنفقها كلها على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في سبيل الله. وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (ما نفعني مال ما نفعني مال أبي بكر)، ولما سمعها أبو بكر الصديق بكى وقال: وهل أنا ومالي إلا لك يا رسول الله. وعن حميد بن عبد يغوث أنه سمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: أبو بكر أخي وأنا أخوه، ما نفعني مال ما نفعني ماله.
وأعتق أبو بكر سبعة كانوا يُعذّبون في الله تعالى منهم: بلال وعامر بن فهيرة. وكان أبو بكر إذا مُدِح قال([14]): "اللهم أنت أعلم بي من نفسي وأنا أعلم بنفسي منهم، اللهم اجعلني خيراً مما يظنون وأغفر لي ما لا يعلمون ولا تؤاخذني بما يقولون" وهذا من تواضعه رضي الله عنه.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال([15]): قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "ما لأحد عندنا يد إلا وقد كافأناه ما خلا أبا بكر، فإن له عندنا يداً يكافئه الله بها يوم القيامة، وما نفعني مال قط ما نفعني مال أبي بكر، ولو كنت متخذاً خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً ألا وإن صاحبكم خليل الله". قال الترمذي: حديث حسن غريب.
قال عمر رضي الله عنه([16]): (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن نتصدق ووافق ذلك مالاً عندي فقلت اليوم أسبق أبا بكر أن سبقته فجئت بنصف مالي. فقال: ما أبقيت لأهلك؟ قلت مثله، وجاء أبو بكر بكل ما عنده فقال يا أبا بكر ما أبقيت لأهلك. قال أبقيت لهم الله ورسوله. قلت لا أسبقه إلى شيء أبداً) اهـ.
وكان أبو بكر رجلاً أبيض نحيفاً خفيف العارضين أحنى، معروق الوجه، غائر العينين، ناتئ الجبهة، عاري الأشاجع. يخضب بالحناء والكتم وكان أول من أسلم من الرجال وأسلم أبواه. له ولوالديه وولده صحبة رضي الله عنهم، وكان يلقب بـ "أخيف بني تيم"([17])، والخيف هو أن تكون إحدى عينيه زرقاء والأخرى سوداء. وكان يُلقّب أيضاً "ذا الخلال" لعباءة كان يخلها على صدره([18]).
واستخلص الشيخ أحمد زين العابدين البكري الصديقي "مفتي السلطنة العثمانية بمصر" عدة صفات لأبي بكر الصديق – رضي الله عنه - جاء ذكرها في القرآن الكريم، وقال العلماء والمفسرون أنه هو المعنّي بهذه الآيات والصفات وأنها نزلت فيه، ومنها: أنه المعطي ( فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى ) [الليل: 5]، والأتقى ( وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى ) [الليل: 17]، والمصدق والمتقي ( وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ) [الزمر: 33]، وهو أكرم الأمة لأنه "الأتقى" ( إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ) [الحجرات: 13]، وهو المنفق ( وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ) [الحديد: 10]، وهو صالح المؤمنين ( فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ ) [التحريم: 4]، وأنه أولوا الفضل ( وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ) [النور: 22]، وأولي الأمر ( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ) [النساء: 59]، وأنه ثاني اثنين ( إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ) [التوبة: 40]، وفي هذه الآية خاصية له من مواضع كثيرة لم يوجد فيها مشاركة لأحد، ومنها: أن الله تعالى ذكر أبا بكر مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في هذه الآية الواحدة خمس مرات، وهو قوله تعالى "ثاني" يعني: محمد وأبا بكر، "اثنين" يعني: محمداً وأبا بكر، "إذ هما في الغار" يعني: محمداً وأبا بكر، "إذ يقول لصحابه لا تحزن" يعني: محمداً وأبا بكر، "إن الله معنا" يعني: محمداً وأبا بكر.
وهو أول من أسلم من الرجال، وأول من وضع الحجر في بناء مسجد الرسول، وأول من أعتق من المعذبين في سبيل الله، مثل بلال وغيره من العبيد والإماء، وأول من جمع بين اللوحين، وأول من دعى إلى الإيمان برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، حتى أسلم على يديه يوم اسلامه: عثمان بن عفان وطلحة بن عبيد الله وابن عوف والزبير وسعد بن أبي وقاص، ثم في اليوم الثاني من اسلامه أسلم عثمان بن مظعون وأبو عبيدة ابن الجراح وأبو سلمة بن عبد الأسد والأرقم بن أبي الأرقم، وهو أول من هاجر مع رسول الله إلى المدينة، وأول من عوقب في الله عز وجل، وهو أول من غير اسمه رسول الله، فانه لمّا أسلم كان اسمه عبد الكعبة، فسمّاه رسول الله عبد الله، وكنّاه بأبي بكر لإبتكاره هذه الخصال التي تم ذكرها. كما جاء أن الملائكة سَمّت أبا بكر الصديق بـ "حكيم قريش".
أما عن شجاعة الصديق: فقد جاء في "مسند البزار" حديثا يروي بعضاً من قصص شجاعته، حيث رُوى عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه خطب ذات مرة فقال([19]): يا أيها الناس من أشجع الناس؟ فقالوا: أنت يا أمير المؤمنين. فقال: أما إني ما بارزني أحد إلا انتصفت منه، ولكن هو أبو بكر، إنا جعلنا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عريشاً فقلنا: من يكون مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لئلا يهوي إليه أحد من المشركين؟ فو الله ما دنا منا أحد إلا أبو بكر شاهراً بالسيف على رأس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يهوي إليه أحد إلا أهوى إليه. فهذا أشجع الناس. قال: ولقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأخذته قريش، فهذا يحاده، وهذا يتلتله، ويقولون: أنت جعلت الآلهة إلهاً واحداً، فو الله ما دنا منا أحد إلا أبو بكر يضرب ويجاهد هذا ويتلتل هذا، وهو يقول: ويلكم! أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله. ثم رفع علي بردة كانت عليه فبكى حتى اخضلت لحيته ثم قال: أنشدكم الله: أمؤمن آل فرعون خير أم هو؟ فسكت القوم، فقال على: فو الله لساعة من أبي بكر خير من ملء الأرض من مؤمن آل فرعون، ذاك رجل يكتم إيمانه، وهذا رجل أعلن إيمانه. فهذه خصوصية للصديق، حيث هو مع الرسول في العريش، كما كان معه في الغار رضي الله عنه وأرضاه.
ولقد كان أبو بكر الصديق محباً لأهله وعشيرته أشد الحب، فكان يحب الخير لقومه كثيراً وهذا يتضح جلياً في يوم أحد، حينما وجد رجلاً يناضل عن رسول الله أشد ما يكون النضال فدعى الله أن يكون ذاك الرجل طلحة بن عبيد الله، لكون الصديق لم يدرك هذه المنقبة فأحب أن ينالها أقرب الناس له وهو ابن عمه "طلحة بن عبيد الله بن عثمان التيمي" فدعى الله أن يكون هو، فكان كما دعى، وذكر هذه الحادثة ابن كثير في تفسيره وغيره من العلماء([20]). فعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، أنها قالت([21]): (كان أبو بكر رضي الله عنه، إذا ذكر يوم أحد قال ذاك يوم كله لطلحة، ثم أنشأ يحدث قال: كنت أول من فاء يوم أحد، فرأيت رجلاً يقاتل مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دونه - وأراه قال: حمية فقال فقلت: كن طلحة، حيث فاتني ما فاتني، فقلت: يكون رجلا من قومي أحب إلي) اهـ.
وعن قوله تعالى: ( قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ) [سورة الأحقاف: 15]، قيل أنها نزلت فى أبى بكر وأبيه أبا قحافة وأمّه أمّ الخير، وفى أولاده واستجابة دعائه فيهم. وقيل لم يكن أحد من الصحابة من المهاجرين والأنصار أسلم هو ووالداه وبنوه وبناته غير أبى بكر، وهو قول ابن عباس([22]).
رحمة الصدّيق بقاتل ابنه([23]): شارك عبد الله بن أبي بكر الصديق رضي الله عنهما في حصار الطائف مع سيدنا رسول الله بعد انصرافهم من غزوة حنين، فأصابه سهم بجراحة كبيرة، مات على أثرها في فترة خلافة أبيه أبي بكر الصديق، ثم بعد موته قدم وفد قبيلة ثقيف إلى خليفة المسلمين أبي بكر الصديق، فسأل أبو بكر الصديق وفد ثقيف عن صاحب السهم الذي قُتل به ولده، فأجاب أحدهم أنه صاحبه فقال الصديق لقاتل ولده: (الحمد لله أن أكرمه بيدك فدخل الجنة، ولم يهنك بيده فتدخل النار).
قلت: سبحان الله!، يحمد الصديق ربه أن أنقذ الله قاتل ولده من النار فلم يكن هو المقتول على يد إبنه، ولكن من قُتل هو ابن الصديق فدخل الجنة، وأسلم بعدها قاتله. تالله إنه لدرس عظيم من دروس الرحمة. فعن القاسم بن محمد، أنه قال([24]): رُمي عبد الله بن أبي بكر رضي الله عنهما بسهم يوم الطائف، فانتقضت به بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأربعين ليلة فمات، فذكر قصته، قال: فقدم عليه وفد ثقيف ولم يزل ذلك السهم عنده، فأخرج إليهم، فقال: هل يعرف هذا السهم منكم أحد؟ فقال سعيد بن عبيد أخو بني العجلان: هذا سهم أنا بريته ورشته وعقبته، وأنا رميت به. فقال أبو بكر رضي الله عنه: "فإن هذا السهم الذي قتل عبد الله بن أبي بكر فالحمد لله الذي أكرمه بيدك ولم يهنك بيده، فإنه أوسع لكما".
روى أبو بكر الصديق الحديث الشريف عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وروى عنه: عمر وعثمان وعلي وعبد الرحمن بن عوف وابن مسعود وابن عمر وابن عباس وحذيفة وزيد بن ثابت وغيرهم رضي الله عنهم أجمعين. واستخلفه النبي صلى الله عليه وآله وسلم على الصلاة بالناس في مرض موته، فبايعه المسلمون بعد وفاة النبي في سقيفة بني ساعدة، ثم بويع بيعة العامة يوم الثلاثاء غد ذلك اليوم. وارتدت العرب، فقام بقتال أهل الردة حتى استقر الإسلام وثبت، وفتح اليمامة، وقتل "مسيلمة الكذاب"، و"الأسود بن كعب العنسيّ" بصنعاء. وحج "أبو بكر" بالناس سنة 12 هـ، ثم صدر إلى المدينة، فبعث الجيوش إلى الشام، فكانت "أجنادين" سنة 13 من الهجرة، وتولى أبو بكر الخلافة وأبوه حي وهذه لم تحدث مع أحد من الخلفاء إلا أبا بكر الصديق، ومكث في الخلافة سنتين وثلاثة أشهر إلا خمس ليال، وقيل: سنتين وثلاثة أشهر وسبع ليالي.
وكان نقش خاتم أبي بكر الصديق: "نعم القادر الله"، وقيل: "عبد ذليل لرب جليل"([25]).
وأعقب أبو بكر الصدّيق رضي الله عنه([26]): عبد الله بن أبى بكر، وأسماء بنت أبى بكر، وأمهما: قتيلة بنت عبد العزى بن عبد بن أسعد بن جابر بن مالك بن حِسْل بن عامر بن لؤي، من: بني عامر بن لؤيّ من قريش.
وعبد الرحمن، وعائشة، وأمهما: أمّ رومان بنت عامر بن عويمر بن عبد شمس بن عتاب بن أذينة بن سبيع بن دهمان بن الحارث بن غنم، وقيل: أم رومان بنت عامر بن عميرة بن ذهل بن دهمان بن الحارث بن غنم، من بني الحارث بن غنم - وقيل من اخوتهم بني فراس بن غنم - ثم من بني مالك بن كنانة. وكانت أم رومان تحت عبد الله بن الحارث بن سخبرة، فولدت له: الطّفيل بن عبد الله بن الحارث. فقدم "أبو الطّفيل" من "السّراة" فحالف أبا بكر، ومعه امرأته: أم رومان. ثم مات فتزوّجها أبو بكر، فكان الطّفيل أخا عائشة وعبد الرحمن لأمهما. وتزوجت أم المؤمنين عائشة من سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم وكانت أحب نساءه إليه.
و محمد بن أبى بكر، وأمه: أسماء بنت عميس بن معد بن تيم بن الحارث بن كعب بن مالك بن قحافة بن عامر بن ربيعة بن عامر بن مالك بن نسر بن وهب اللَّه بن شهران بن عفرس بن حلف بن أفتل وهو خثعم الخثعمية.
وأم كلثوم بنت أبي بكر، وأمها: حبيبة بنت خارجة بن زيد بن أبي زهير بن مالك بن امريء القيس بن مالك الأغر بن ثعلبة بن كعب، من بني الحارث بن الخزرج من الأنصار، وهي أخت سعد بن الربيع لأمه، وكانت نسأ حين توفي أبو بكر، فولدت له بعد وفاته أم كلثوم، وتزوجها طلحة بن عبيد الله التيمي وأنجب منها زكريا وعائشة.
وكان لأبي بكر الصديق زوجة اسمها "أم بكر" من بني كلب بن عوف بن عامر بن ليث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة، وليس كلب بن وبرة، ولكنه طلقها قبل الهجرة إلى المدينة المنورة، فتزوجها ابن عمها أبو بكر شداد بن الأسود بن عبد شمس بن مالك بن جعونة ويُقال له "ابن شعوب"، ولم يُذكَر أن أبا بكر الصديق أنجب منها شيئاً. وقد جاء ذِكرها في حديث روته أم المؤمنين عائشة في صحيح البخاري، ونصّه: حدثنا أصبغ، حدثنا ابن وهب، عن يونس، عن ابن شهاب، عن عروة بن الزبير، عن عائشة: أن أبا بكر رضي الله عنه، تزوج امرأة من كلب يقال لها أم بكر، فلمّا هاجر أبو بكر طلقها، فتزوجها ابن عمها، هذا الشاعر الذي قال هذه القصيدة رثى كفار قريش([27]):
مَاذَا بِالْقَلِيبِ قَلِيبِ بَدْرٍ |
|
مِنْ الشِّيزَى تُزَيَّنُ بِالسَّنَام |
من درر ما قاله أبو بكر الصديق([28]):
الموت أهون مما بعده، وأشد مما قبله.
ليست مع العزاء مصيبة، ولا مع الجزع فائدة.
ثلاث من كنّ فيه كنّ عليه: البغي، والنكث، والمكر.
إن الله قرن وعده بوعيده، ليكون العبد راغباً راهباً.
ذل قوم أسندوا أمرهم إلى امرأة.
إن عليك من الله عيوناً تراك.
إن البلاء موكل بالمنطق.
ما من طامة إلا وفوقها طامة أخرى.
صنائع المعروف تقي مصارع السوء([29]).
ليكن الإبرام بعد التشاور، والصفقة بعد التناظر.
يا طائر تقع على الشجر، وتأكل من الثمر، ولا تدري ما الخبر.
فاز بالمروءة من امتطى التغافل، وهان على القرناء من عُرف باللجاج.
أفضل الناس عند الله من عزّ به الحق، وانتشر عنه الصدق، ورتق برأيه الفتق.
لا يكونَنَّ قولك لَغْواً في عفو ولا عقوبة ولا تجعل وعدك ضجاجاً في كل شيء.
إن كل من لم يهده الله ضال، وكل من لم يعافه الله مبتلى، وكل من لم يعنه الله مخذول، فمن هدى الله كان مهتدياً، ومن أضله الله كان ضالاً.
إذا فاتَك خيرٌ فأدركه، وإن أدركك شر فاسبِقه.
العجز عن درك الإدراك إدراك.
أتدرون أي ذنب أسرع عقوبة؟ البغي وقطيعة الرحم.
إذا كان المال عند من لا ينفقه، والسلاح عند من لا يستعمله، والرأي عند من لا يُقبل منه، ضاعت الأمور.
العداوة تتوارث.
احْرِصْ على الموت تُوهَبْ لك الحياة، قَاله لخالد بن الوليد حين بعثه إلى أهل الردة.
رحم الله امرأ أعانَ أخاه بنفسه.
يا هادىَ الطريقِ جُرْتَ فالفجْر أو البَجْرُ.
أطْوَعُ الناسِ لله أشدُّهم بُغْضاً لمعصيته.
إن الله يَرَى من باطنك ما يَرَى من ظاهرك.
إن الله حرّم الجنة أن يدخلها جسد غذي بحرام.
إن أولى الناسِ بالله أشدُّهم تولِّياً له.
إياك وغِيبَةَ الجاهلية، فإن الله أبْغَضَهَا وأبغض أهلها.
كثيرُ القولِ يُنْسِى بعضُه بعضاً، وإنما لك ما وُعِىَ عنك.
إن العبد إذا دخله العجب بشيء من زينة الدنيا مقته الله تعالى حتى يفارق تلك الزينة.
كنا ندع سبعين باباً من الحلال، مخافة أن نقع في الحرام.
لا دين لأحد لا إيمان له، ولا أجر لمن لا حسبة له، ولا عمل لمن لا نية له.
لا تكتم المستشار خبرك فَتُؤْتَ من قِبل نفسك.
أصْلِحْ نفسَك يَصْلُحْ لك الناس.
إنظر ما تقول ومتى تقول.
اصدق اللقاء إذا لقيت، ولا تجبن فيجبن الناس.
أحسِن صحبة من صحبك، وليكونوا عندك في الحق سواء.
لا خير في خير بعده النار، ولا شر في شر بعده الجنة.
لا تحقرن أحداً من المسلمين فإن صغيرهم عند الله كبير.
لا تجعل سرَّكَ مع عَلاَنيتك فيمرج أمرُك.
خيرُ الخَصْلتين لك أبْغَضُهما إليك.
ليتني كنت شجرة تعضد ثم تؤكل.
إن الله لاَ يقبل نافلةً حتى تُؤَدَّى فريضة.
وكان يأخذ بلسانه ويقول: هذا الذي أوردني الموارد.
اللهم ابسط لي الدنيا وزهدني فيها، ولا تزوها عني وترغبني فيها.
إن لكل نفس شهوة إذا أعطيتها تمادت فيها ورغبت إليها.
اللهم رحمتك أرجو، فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين، وأصلح شأني كله، لا إله إلا أنت.
وكان أبو بكر رضي الله عنه إذا مُدح قال: اللهم أنت أعلم بي من نفسي، وأنا أعلم بنفسي منهم، اللهم اجعلني خيراً مما يظنون، وأغفر لي مالا يعلمون، ولا تؤاخذني بما يقولون.
وكان رضي الله عنه يتمثّل كثيراً قول القائل:
تنفك تسمع ما حييت |
|
بهالك حتى تكونه |
وكان يقول:
كل امرئ مصبح في أهله |
|
والموت أدنى من شراك نعله |
وقال في خطبة له: إن أكْيَسَ الكَيْس التقى، وإن أعجز العجز الفجور، وإن أقواكم عندي الضعيف حتى أعطيه حقّه، وإن أضعفكم عندي القويُّ حتى آخذ منه الحق، فإنكم في مهل، وراءه أجل، فبادروا في مَهل آجالكم قبل أن تُقطع آمالكم فتردكم إلى سوء أعمالكم.
وقدم وفد من اليمن عليه فقرأ عليهم القرآن، فبكوا، فقال: هكذا كنا حتى قست القلوب.
وقَالَ له عمر رضي الله عنهما: استخلف غيري، قال: ما حبوناك بها، إنما حبوناها بك.
ومر بابنه عبد الرحمن وهو يُمَاظُّ جارَه([30])، فقال: لا تُمَاظِّ جارك، فإن هذا يبقى، ويَذهبُ الناسُ.
قال لعمر رضي الله عنهما حين أنكر مُصالحة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أهلَ مكة: استمسك بغرزه فإنه على الحق.
وقال عند موته لعمر رضي الله عنهما: والله ما نمتُ فحلمت، وما شبعت فتوهمت، وإني لعلى السبيل ما زُغت ولم آل جَهداً، وإني أوصيك بتقوى الله، وأحذِّرك يا عمر نفسك، فإن لكل نفس شهوة إذا أعطيتها تمادت فيها، ورغبت فيها.
ومر به رجل ومعه ثوب فقال: أتبيع الثوب؟ فقال الرجل: لا عافاك الله، فقال رضي الله عنه: قد عُلِّمتم لو تعلمون، قل: لا، وعافاك الله.
وقال: أربع من كن فيه كان من خيار عباد الله: من فرح بالتائب، واستغفر للمذنب، ودعا المدبر، وأعان المحسن. وقال: حق لميزان يُوضع فيه الحق أن يكون ثقيلاً، وحق لميزان يوضع فيه الباطل أن يكون خفيفاً.
ومما قاله: أدخلاني في سلمكما كما أدخلتماني في حربكما([31]): وذلك أنه دخل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فسمع صوت ابنته عائشة عالياً، فلما اقترب منها تناولها ليلطمها وقال: أراكِ ترفعين صوتك على رسول الله، فجعل رسول الله يحجزه، وخرج أبو بكر مغضباً، فقال النبي لعائشة حين خرج أبي بكر: "أرأيتِ كيف أنقذتك من الرجل؟"، فمكث أبو بكر أياماً ثم استأذن على رسول الله فوجدهما قد اصطلحا، فقال لهما: أدخلاني في سلمكما، كما أدخلتماني في حربكما، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "قد فعلنا".
يُروى أن أبا بكر الصديق لمّا مرض المرض الذي تُوفي فيه، دخل عليه أناس يعودونه، فقالوا له: يا خليفة رسول الله ألا ندعوا لك طبيباً ينظر إليك؟. فقال: "قد نظر إلي". قالوا: ما قال؟. قال: "أني فعال لما أريد"([32]).
وفاته - رضي الله عنه:
تُوفى أبي بكر الصديق مساء الإثنين، ودُفِن ليلة الثلاثاء لثمان بقين – يوم 22 - من جمادى الآخرة سنة 13 هـ، وقيل توفي بين المغرب والعشاء من ليلة الثلاثاء لثمان ليال بقين من جمادى الآخرة، وقيل توفي ليلة الجمعة لسبع ليال بقين من جمادى الآخرة، وقيل غير ذلك. وتوفي وهو ابن ثلاث وستين سنة، فغسّلته زوجته أسماء بنت عميس، وصلى عليه عمر بن الخطاب، ونزل في قبره: عمر، وعثمان، وطلحة، وعبد الرحمن بن أبى بكر رضي الله عنهم، ودفن ليلاً إلى جانب قبر رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم. واختلف في سبب موته، فقيل أنه مات مسموماً، عندما أكل هو والحارث بن كلدة طعام أُهدي لأبي بكر، فقال الحارث – وكان طبيباً – ارفع يدك والله إن فيه لسم سنة، فلم يزالا عليلين حتى ماتا عند انقضاء السنة في يوم واحد([33]). وقيل بل مات جراء تآثره بسم الأفعى التي لدغته في الغار، حين الهجرة النبوية. وقيل أنه اغتسل في يوم بارد فحم خمسة عشر يوما ثم مات بعدها وقيل أنه مات كمداً على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وفضائله أكثر من أن تُحصى رضي الله عنه وأرضاه.
المصدر: كتاب السلالة البكرية الصديقية - الجزء الثاني ، لأحمد فرغل الدعباسي البكري.
تاريخ النشر
يوم 1 رمضان 1438 هـ / 26 مايو 2017 م
([1]) الإستيعاب في معرفة الأصحاب 3/ 963 ، معرفة الصحابة لأبي نعيم 1/ 25 ، أسد الغابة ط العلمية 3/ 310 ، التبيين في أنساب القرشيين 1/ 269-274 ، جامع الأصول 12/ 121 ، صفة الصفوة 1/ 89 ، تاريخ الخميس في أحوال أنفس النفيس 2/ 199 ، تلقيح فهوم أهل الأثر 1/ 74 ، التحفة اللطيفة في تاريخ المدينة الشريفة 2/ 59، الوافي بالوفيات 17/ 164 ، الجوهرة في نسب النبي وأصحابه العشرة 2/ 105 ، أبو بكر الصديق أول الخلفاء الراشدين 1/ 13، نهاية الأرب في فنون الأدب 19/ 8 ، لوامع الأنوار البهية 2/ 311-314 ، فتح المغيث بشرح ألفية الحديث 4/ 124 ، شذرات الذهب في أخبار من ذهب 1/ 154 ، الإنشراح ورفع الضيق في سيرة أبي بكر الصديق 1/ 18، فضائل الصحابة لأحمد ابن حنبل 1/ 133 ، الأعلام للزركلي 4/ 102-103 ، أعلام النبوة للماوردي 1/ 240 ، البدء والتاريخ 5/ 167 ، المنتظم في تاريخ الملوك والأمم 4/ 56 ، الكامل في التاريخ 1/ 657 ، تاريخ الخلفاء 1/ 31 ، مخطوط: إرشاد الصديق إلى أنساب آل الصديق لبدر الدين بن سالم تابع آل الصديق ، مخطوط: رشف الزلال عن تبسم ثغر السؤال لأحمد زين العابدين الصديقي
([2]) المعجم الكبير للطبراني 1/ 53 ، الكنى والأسماء للدولابي 1/ 16
([3]) المستدرك على الصحيحين للحاكم 3/ 65
([4]) تفاسير: ابن كثير ط العلمية 8/ 407 ، البغوي 5/ 264 ، السمعاني 6/ 240 ، زاد المسير 4/ 455 ، الثعالبي 5/ 600
([5]) أسد الغابة ط العلمية 3/ 310 ، تاريخ دمشق لابن عساكر 30/ 31 ، الخصائص الكبرى 1/ 52 ، نهاية الأرب في فنون الأدب 16/ 145 ، المصباح المضي في كتاب النبي الأمي ورسله إلى ملوك الأرض من عربي وعجمي لابن حديدة 1/ 33
([6]) الأزد: قبيلة عربية كبيرة من بني كهلان من بني قحطان ، تنتشر القبيلة باليمن والحجاز والشام وغيرها ، ومن بطونهم: الأوس والخزرج وغسان ودوس وزهران.
([7]) تاريخ دمشق لإبن عساكر 30/ 338 ، تحفة أهل التصديق ببعض فضائل الإمام أبي بكر الصديق صـ 93 ، فضائل الصحابة لأحمد ابن حنبل 1/ 139 ، الرياض النضرة في مناقب العشرة 1/ 185
([8]) الإستيعاب في معرفة الأصحاب 3/ 1105 ، تاريخ الإسلام ت تدمري 3/ 341 ، البداية والنهاية ط إحياء التراث 6/ 173 ، الوافي بالوفيات 15/ 27 ، تاريخ دمشق لإبن عساكر 39/ 222
([9]) الأشناق: وهي تحمل الديات والمغارم، وكانت الأشناق من أمور القضاء عند قريش. وحين يقوم أحد الأجواد بدفع الديات أو المغارم عن أهل القاتل أو الجاني، فإنه قد لا يقدر على دفع كامل الغرامة أو الدية، فكان يطلب من قبيلته مساعدته في إكمال عدة الدية أو الغرم، ويسمى هذ الأمر حينئذ: بالأشناق، وكانت لبني تيم مهمة الأشناق، ليحتملوا بها دية من لا يستطيع دفع الدية، وكان أبو بكر الصديق هو من انتهت إليه رئاسة الأشناق زمن البعثة النبوية، وكان أبو بكر إن احتمل دية قوم أو شيء من الدماء فإن قريش كانت تمضي حمالته وحمالة من قام معه، وتعينه على حمالته، وإن احتملها غيره خذلوه. وكانت قريش تفتخر بمكرمة الأشناق على سائر الناس.
وقيل: الأشناق هي ما دون الدية، ويشترك أكثر من رجل في حملها وقضاءها عن أهلها. وقيل: إنما هي الإبل التي تعطى زيادة عن الديات.
وخلاصة ما نستنتجه عن الأشناق: هي الدية المتعلقة بالغرم والجراحات، وهو دون الدية الكاملة، وكان أهل القاتل يدفعون الدية الكاملة، وما زاد عن ذلك من مغارم متعلقة بجراحات فهي ما تسمى بالأشناق، وكان يساهم في احتمالها أجواد الناس وأعيانهم، وكان أبو بكر الصديق إن احتمل شيء من الأشناق فإن قريش كانت تصدّقه وتمضي حمالته وحمالة من أعانه، وتعينه أيضاً على دفعها، وإن احتملها غيره كانت تخذله ولا تصدّقه. للمزيد انظر: المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام 10/ 272 ، تاريخ العرب القديم 1/ 182 ، الإستيعاب في معرفة الأصحاب 3/ 966 ، الإصابة في تمييز الصحابة 4/ 149 ، الرياض النضرة في مناقب العشرة 1/ 79 ، أسواق العرب في الجاهلية والإسلام 1/ 111 ، المعجم الوسيط 1/ 496 ، مجمل اللغة لابن فارس 1/ 513
وللأشناق معنى آخر لغوي وفقهي: وهو ما لا زكاة فيه، إما لعدم بلوغه النصاب، أو لوقوعه بين فريضتين، وقيل: الشنق هو ما دون الفريضة، وهو ما كان أقل من خمس من الإبل، وأقل من ثلاثين من البقر. وقال البعض: الأشناق تختص بالإبل فقط، والأوقاص تختص بالبقر والغنم.
([10]) فضائل الصحابة لأحمد ابن حنبل 1/ 133 ، المعجم الكبير للطبراني 12/ 89 ، مجمع الزوائد 9/ 43
([11]) سيرة ابن إسحاق 1/ 139
([12]) التفسير الوسيط للواحدي 2/ 496 ، تفسير البغوي 2/ 349
([13]) صحيح مسلم 4/ 1855 ، مسند أحمد ط الرسالة 7/ 417 ، مسند ابن أبي شيبة 1/ 217 ، مسند أبي داود الطيالسي 1/ 247 ، صحيح ابن حبان 15/ 272 ، المعجم الكبير للطبراني 10/ 105
([14]) أسد الغابة ط الفكر 3/ 221 ، تهذيب الأسماء واللغات 2/ 190 ، ربيع الأبرار ونصوص الأخيار 5/ 97 ، زهر الأداب وثمر الألباب 1/ 70
([15]) سنن الترمذي ت بشار 6/ 50 ، تاريخ الإسلام ط التوفيقية 3/ 6
([16]) سنن الترمذي ت بشار 6/ 56 ، سنن الدارمي 2/ 1033 ، سنن أبي داود 2/ 129 ، مسند الفاروق لإبن كثير 1/ 263 ، المستدرك على الصحيحين للحاكم 1/ 574
([17]) النهاية في غريب الحديث والأثر 2/ 93 ، لسان العرب 9/ 101 ، تاج العروس 23/ 296
([18]) تحفة أهل التصديق ببعض فضائل الإمام أبي بكر الصديق صـ 116
([19]) مسند البزار 3/ 14
([20]) تفسير ابن كثير 2/ 125
([21]) تاريخ الإسلام ت تدمري 2/ 190 ، البداية والنهاية ط إحياء التراث 7/ 275 ، سير أعلام النبلاء ط الحديث 1/ 410 ، تهذيب التهذيب 5/ 20
([22]) تفسير الجلالين 1/ 668 ، تفسير القرطبي (16/192، 195) ، تفسير البغوي 4/ 195 ، تفسير الطبري 22/ 15 ، تفسير السمعاني 5/ 154 ، تفسير الثعلبي 9/ 12
([23]) المستدرك على الصحيحين للحاكم 3/ 543
([24]) السنن الكبرى للبيهقي 9/ 167 ، كنزالعمال 10/ 553
([25]) أنساب الأشراف للبلاذري 10/ 96 ، الجوهرة في نسب النبي وأصحابه العشرة 2/ 125 ، الطبقات الكبرى ط العلمية 3/ 158 ، معرفة الصحابة لأبي نعيم 1/ 27 ، الإستيعاب في معرفة الأصحاب 3/ 977 ، الرياض النضرة في مناقب العشرة 1/ 58 ، تاريخ الطبري 3/ 427 ، تاريخ دمشق لابن عساكر 30/ 308 ، المنتظم في تاريخ الملوك والأمم 4/ 55 ، البداية والنهاية ط إحياء التراث 7/ 23 ، الكامل في التاريخ 2/ 264 ، تاريخ الخلفاء 1/ 88 ، التنبيه والإشراف 1/ 249
([26]) المعارف لإبن قتيبة 1/ 173
([27]) صحيح البخاري 5/ 65
ذكر الحافظ ابن حجر في "الإصابة، وفتح الباري" والعيني في "عمدة القاري" والقسطلاني في "إرشاد الساري" أن الشاعر المذكور هو: أبو بكر شداد بن الأسود بن شعوب، مشهور بالنسبة إلى جده، واسمه شداد. وساق ابن هشام الشعر في السيره بزيادة خمسة أبيات، وزعم أنه كان أسلم ثم ارتد. وفي مسند البزار أن أبا بكر بن شعوب المذكور كان في الرهط الذين كانوا في بيت أبي طلحة لما حرمت الخمر، وهو الذي يقول فيه أبو سفيان بن حرب في وقعة بدر "ولم أحمل النعماء لابن شعوب"،
ثم قالوا: قوله أن أبا بكر تزوج امرأة من كلب أي من بني كلب وهو كلب بن عوف بن عامر بن ليث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة، ويدل عليه ما وقع في رواية الترمذي الحكيم من طريق الزبيدي عن الزهري في هذا الحديث ثم من بني عوف، وأما الكلبي المشهور فهو من بني كلب بن وبرة بن تغلب بن قضاعة، قوله أم بكر لم أقف على اسمها وكأنه كنيتها المذكورة، قوله فلما هاجر أبو بكر طلقها فتزوجها ابن عمها، هذا الشاعر هو أبو بكر شداد بن الأسود بن عبد شمس بن مالك بن جعونة ويقال له ابن شعوب بفتح المعجمة وضم المهملة وسكون الواو بعدها موحدة، قال ابن حبيب هي أمه وهي خزاعية لكن سماه عمرو بن شمر وأنشد له أشعاراً كثيرة قالها في الكفر، قال ثم أسلم، وذكر مثله ابن الأعرابي في كتاب من نسب إلى أمه، وزعم أبو عبيدة أنه ارتد بعد إسلامه حكاه عنه ابن هشام في زوائد السيرة والأول أولى.
وقال ابن حجر في "الإصابة" عن ذلك الحديث وتلك القصيدة: وأخرجه الحكيم الترمذي في نوادر الأصول من طريق الزبيدي، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة رضي اللَّه تعالى عنها أنها كانت تدعو على من يقول: إن أبا بكر الصديق رضي اللَّه تعالى عنه قال هذه القصيدة، ثم تقول: واللَّه ما قال أبو بكر بيت شعر في الجاهلية ولا في الإسلام، ولكن تزوّج امرأة من بني كنانة ثم بني عوف، فلما هاجر طلقها فتزوّجها ابن عمها هذا الشاعر، فقال هذه القصيدة يرثي كفار قريش الذين قتلوا ببدر، فتحامى الناس أبا بكر من أجل المرأة التي طلقها، وإنما هو أبو بكر ابن شعوب.
كما أن ابن الأثير الجزري صرّح بإسم قائل القصيدة تلك في "جامع الأصول"، فقال أنه: أبو بكر ابن الأسود.
انظر: فتح الباري لابن حجر (1/ 303 ، 7/ 258) ، عمدة القاري شرح صحيح البخاري 17/ 57-58 ، إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري 6/ 227 ، الإصابة في تمييز الصحابة 7/ 38-39 ، جامع الأصول 8/ 210
([28]) زهر الأداب وثمر الألباب 1/ 70-71 ، مجمع الأمثال 2/ 450-451 ، نهاية الأرب في فنون الأدب 3/ 4 ، أبو بكر الصديق أول الخلفاء الراشدين 1/ 100-101 ، حلية البشر في تاريخ القرن الثالث عشر 1/ 878 ، طبقات الشافعية الكبرى للسبكي 9/ 82 ، كنز العمال 9/ 183 ، ربيع الأبرار ونصوص الأخيار (2/ 233 ، 356 ، 387 ، 431) و (3/ 367 ، 412 ، 446 ، 454) و (4/ 357) و (5/ 97 ، 132) ، مخطوط: تحفة الصديق إلى الصديق من كلام أبي بكر الصديق لمحمد بن محمد بن عبد الجليل العمري البلخي الملقب برشيد الوطواط
([29]) جاء في أكثر من مصدر أنها من أقوال أبي بكر الصديق، ولكن عند البحث في كتب الحديث النبوي الشريف وجدنا أنها من كلام سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولعل أبا بكر الصديق كان يُكثر من التمثّل بها وقولها، حتى آثرت عنه وَظُنَّ أنها من كلامه هو، والله أعلم. انظر: المعجم الكبير للطبراني 8/ 261 ، كنز العمال 6/ 597 ، مجمع الزوائد ومنبع الفوائد 3/ 115
([30]) يماظ: المُماظَّة المُشَارَّة والمُشاقَّةُ، وشِدَّةُ المُنَازَعةِ مَعَ طُول اللُّزُوم. انظر: لسان العرب 7/ 463 ، تهذيب اللغة 14/ 262 ، تاج العروس 20/ 283
([31]) الإنشراح ورفع الضيق في سيرة أبي بكر الصديق 1/ 92
([32]) المحتضرين لإبن أبي الدنيا 1/ 52 ، كنز العمال 12/ 532 ، معرفة الصحابة لأبي نعيم 1/ 30
([33]) الإصابة في تمييز الصحابة 4/ 149 ، فتح المغيث بشرح ألفية الحديث 4/ 321 ، التحفة اللطيفة في تاريخ المدينة الشريفة 2/ 60 ، تهذيب التهذيب 5/ 317