سلالة الصديق

historybio.jpg

 سيَر ، وتراجم الأعلام من ذرية سيدنا أبي بكر الصديق – رضي الله عنه ، الرجال والنساء والأسباط ، على مر الزمان ، وعلى إمتداد العمران والبلدان .

مرتبة تنازلياً حسب عام الوفاة ، وهو قسم متجدد بإستمرار إن شاء الله تعالى. 

محمد بن أبي بكر الصديق

محمد بن أبي بكر الصديق([1]): أبو القاسم محمد بن أبي بكر الصديق القرشي التيمي رضي الله عنهما، أمير مصر وابن الخليفة الأول أبى بكر الصديق. ولدته أمه: أسماء بنت عميس الخثعمية "بذى الحليفة" بين مكة والمدينة سنة 10 هـ أثناء حجة الوداع. ورباه علي بن أبى طالب رضي الله عنه، الذي تزوج أمه بعد وفاة الصديق، وقد مات الصديق ولمحمد من العمر نحو سنتين ونصف.

كان محمد بن أبي بكر يعرف بعابد قريش، وهو أخو عبد الله ومحمد وعون بنو جعفر الطيار، وأخو يحيى بن علي بن أبي طالب من قبل أمه "أسماء بنت عميس". وهو أخو أم المؤمنين عائشة، وكذا فإثنتين من أمهات المؤمنين هنّ خالالته: ميمونة بنت الحارث الهلالية وزينب بن خزيمة الهلالية فهنّ إخوة أمه "أسماء بنت عميس" من أمها. وكانت له مكانة كبيرة لدى الخليفة علي بن أبى طالب فقد شهد معه صفين والجمل، وولاه علي على مصر فدخلها في شهر رمضان سنة 37 هـ بعد مالك بن الأشتر النخعي وقيس بن سعد بن عبادة الخزرجي، ودامت ولايته عليها خمسة أشهر حتى دخلها جيش معاوية بن أبى سفيان بقيادة عمرو بن العاص رضي الله عنهم جميعاً.

فقُتِل بمصر وله من العمر 28 سنة، وذلك في رابع عشر صفر سنة 38 هـ وكانت مدة ولايته خمسة أشهر، وقيل في قتله: أنه بعد أن انهزم جيشه من قِبل جيش معاوية، هرب إلى خربة، فتتبعوه حتى دلتهم عليه عجوز من عجائز الفسطاط، فلما دخلوا عليه وجدوه قد كدّه العطش، فقال لهم: "بالله عليكم اسقوني شربة من الماء"، فقال له معاوية بن حديج السكوني: "لا سقاني الله إن سقيتك، أنسيت منعك الماء لعثمان وهو في الدار؟"، فقال محمد بن أبي بكر: "أكرموني لأجل أبي بكر"، فقال له معاوية بن حديج: "لا أكرمني الله إن أكرمتك".

وذكر موفق الدين الشارعي في "مرشد الزوار" والمقريزي في "المواعظ والإعتبار" أن محمد بن أبي بكر قال: "احفظوني في أبي بكر"، فقال معاوية بن حديج: "قتلت ثمانين رجلاً من قومي في عثمان، وأتركك وأنت صاحبه؟".

ثم تقدم إليه معاوية بن حديج، وضرب عنقه بالسيف، ثم أدخل جثته في جوف جيفة حمار ميت، وأحرقه!، وقيل بل أدخله حيّاً إلى جوف الحمار، ثم أشعل فيهما النار. ودُفِن فى الموضع الذي قتل فيه. فلما كان بعد سنة جاء "زمام" غلامه فحفر عليه، فلم يجد سوى رأسه، فدفنه فى هذا المسجد. ويقال: إن الرأس فى القبلة.

وذكر ابن تغري بردي في حادثة مقتله ما نصّه: خرج معاوية بن حديج فى طلب محمد بن أبي بكر، فسأل قوماً من العلوج وكانوا على الطريق فقال: هل رأيتم رجلاً من صفته كذا وكذا؟ فقال واحد منهم: قد دخل تلك الخربة، فدخلوها فإذا برجل جالس، فقال معاوية بن حديج: هو ورب الكعبة، فدخلوها واستخرجوه وقد كاد يموت عطشاً، فأقبلوا به على الفسطاط ووثب أخوه عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق إلى عمرو بن العاص وكان في جنده، فقال: أيقتل أخي صبراً؟ فأرسل عمرو إلى معاوية بن حديج يأمره أن يأتيه بمحمد بن أبي بكر كرامة لأخيه عبد الرحمن ابن أبي بكر، فقال معاوية: أيقتل كنانة بن بشر وأخلي أنا محمداً هيهات هيهات! فقال محمد: اسقوني ماء، فقال معاوية بن حديج: لا سقاني الله إن سقيتك قطرة، إنكم منعتم عثمان الماء، ثم قتلتموه صائماً فتلقاه الله بالرحيق المختوم، والله لأقتلنّك يا ابن أبي بكر فليسقك الله من الجحيم، فقال محمد لمعاوية: يا بن اليهودية النساجة ليس ذلك إليك، أما والله لو كان سيفي بيدي ما بلغتم بي هذا، فقال له معاوية:

أتدري ما أصنع بك؟ أدخلك في جوف حمار، ثم أحرقه عليك بالنار، فقال محمد: إن فعلتم ذلك لطالما فعلتموه بأولياء الله تعالى، ثم طال الكلام بينهما حتى أخذ معاوية محمداً ثم ألقاه في جيفة حمار ميت ثم حرقه بالنار، وقيل: إنه قطع رأسه وأرسله إلى معاوية بن أبي سفيان بدمشق وطيف به، وهو أول رأس طيف به في الإسلام.

قلت: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، أيقتلونه بعد أن قال "أكرموني لأجل أبي بكر"؟، ثم لا يكتفون بهذا، بل يحرقونه في جوف حمار ميت، أهكذا يكون إكرام أولاد أبي بكر الصديق؟

وقيل: أن ما جرى له من احراقه بالنار انما هو بسبب دعاء أخته أم المؤمنين عائشة – رضي الله عنها - عليه يوم الجمل، حيث أنه بعد انتهاء معركة يوم الجمل لم يُعرف حال أم المؤمنين عائشة، وهل أصيبت في المعركة أم لا، فطُلِب من أخاها محمد بن أبي بكر – وكان قائداً في جيش علي بن أبي طالب رضي الله عنه – أن ينظر داخل هودجها ليطمئن عليها، فلما أدخل يده في هودجها لينظر إليها، فقالت وهي لا تعرفه وقد ظنته أجنبياً: "من هذا الذى يتعرّض لحرم رسول الله؟ أحرقه الله بالنار"، فقال لها: "يا أختاه قولي بنار الدنيا"، فعرفت أنه أخوها محمداً، فقالت: "بنار الدنيا". فكان الأمر كما دعت وقالت، وأُحرق بالنار في الدنيا.

قلت: لا أدري ما صحة هذه الرواية، غير أن ابن حجر العسقلاني ذكر في "لسان الميزان" عن المعمر علي بن عثمان بن الخطاب أنه قال: "رأيت عائشة طويلة بيضاء بوجهها أثر جدري، وسمعتها تقول لأخيها محمد يوم الجمل أحرقك الله بالنار في الدنيا والآخرة"، غير أنه لم يذكر باقي قصة يوم الجمل، فالله أعلم بصحة الرواية.

وقيل عن موضع قتله: أنه قُتل في "كوم شريك" بالقرب من الإسكندرية، ذكر هذا عماد الدين الأصفهاني في "البستان الجامع"، وكوم شريك تقع حالياً في مركز كوم حمادة بمحافظة البحيرة.

ولمّا بلغ أسماء بنت عميس رضي الله عنها، خبر ولدها محمد بن أبى بكر وقتله، وإحراقه بالنار، قامت إلى مسجدها وجلست فيه، وكظمت الغيظ حتى شخبت ثدياها دما.

ولمّا بلغ عليّا رضي الله عنه، قتله وإحراقه بالنار، وجد عليه وجداً عظيماً، وقام خطيباً، فحمد الله تعالى وأثنى عليه، ثم قال: ألا إنّ محمّد بن أبى بكر قد أصيب، رحمه الله، وعند الله نحتسبه، أما والله أن كان لما علمت لمن يؤمن بالقضاء، ويعمل للجزاء، ويحب هذا المؤمن، ويبغض شكل الفاجر.

وقيل لعلى عليه رضي الله عنه: لقد جزعت على محمد بن أبى بكر جزعاً شديداً. فقال: أجل والله، كان لى ربيباً، وكنت أعدّه ولداً. وقيل: إنه لمّا بلغه قتله بكى عليه وقال: والله لقد كان غلاماً نافعاً، وركناً دافعاً، وسيفاً قاطعاً، وحبيبا لنا عدوّا لهم، ويحزننى عليه شماتتهم به.

ولمّا بلغه أنهم قالوا: كان عاقّا لوالديه قال: والله لقد كان بارّا بوالديه، وسأحتسبه عند الله. وقال: لا أحد بايعنى على ما فى نفسه إلّا محمد بن أبى بكر، فإنه بايعنى على ما في نفسي.

وفي مقتله يقول الشاعر أبو نواس مشنّعاً لفِعلة ابن حديج السكوني الكِندي، ومعايراً له بمثالب قومه "قبيلة كِندة"، ومذكّراً إياه بمقتل رجال من قبيلته، مثل: "حُجر" أبي الشاعر امرئ القيس، وتذكيره بتقتيل "عمرو بن هند" لقومه:

يا هاشِمُ اِبنُ حُدَيجٍ لَيسَ فَخرُكُمُ        
أَدرَجتُمُ في إِهابِ العَيرِ جُثَّتَهُ        
إِن تَقتُلوا اِبنَ أَبي بَكرٍ فَقَد قَتَلَت        
وَطَرَّدوكُم إِلى الأَجبالِ مِن أَجَأٍ        
وَقَد أَصابَ شَراحيلاً أَبو حَنَشٍ        
وَيَومَ قُلتُم لِزَيدٍ وَهوَ يَقتُلُكُم        
وَكُلُّ كِندِيَّةٍ قالَت لِجارَتِها        
أَلهى اِمرَأَ القَيسِ تَشبيبٌ بِغانِيَةٍ        
 

 

بِقَتلِ صِهرِ رَسولِ اللَهِ بِالسَدَدِ
فَبِئسَ ما قَدَّمَت أَيديكُمُ لِغَدِ
حُجراً بِدارَةِ مَلحوبٍ بَنو أَسَدِ
طَردَ النَعامِ إِذا ما تاهَ في البَلَدِ
يَومَ الكِلابِ فَما دافَعتُمُ بِيَدِ
قَتلَ الكِلابِ لَقَد أَبرَحتَ مِن وَلَدِ
وَالدَمعُ يَنهَلُّ مِن مَثنى وَمِن وَحِدِ
عَن ثَأرِهِ وَصِفاتُ النُؤيِ وَالوَتَدِ
 

وكانت أم المؤمنين عائشة منذ قُتل محمد بن أبي بكر وأُحرقت جثته، لا تأكل الشواء، ولا تراه إلا بكت، إلى أن ماتت، وكانت تقول: كنت أعدّه ولداً وأخاً رضي الله عنها. وكان محمد بن أبي بكر ممن حضر قتل عثمان بن عفان رضي الله عنه، وقيل: إنه شارك فِي دمه، وقد نفى جماعة من أهل العلم أَنه شارك فِي دمه، وقالوا أنه لما دخل الدار على عثمان رضي الله عنه، فإن عثمان قال له: "لو رآك أبوك لم يرض هذا المقام منك"، فإنه خرج عنه وتركه، ثم دخل عليه من قتله. وقيل: إنه أشار على من كان معه فقتلوه.

تحدّث ابن عبد البر عن حادثة مقتل ذو النورين رضي الله عنه فقال([2]): روى أسد بن موسى، قال: حدثنا محمد بن طلحة، قال: حدثنا كنانة مولى صفية بنت حيي - وكان شهد يوم الدار- إنه لم ينل محمد بن أبي بكر من دم عثمان بشيء. قال محمد بن طلحة: فقلت لكنانة: فلم قيل إنه قتله؟ قال: معاذ الله أن يكون قتله، إنما دخل عليه، فقال له عثمان: يا ابن أخي، لست بصاحبي، وكلمه بكلام، فخرج ولم ينل من دمه بشيء. فقلت لكنانة: فمن قتله، قال: رجل من أهل مصر يقال له جبلة بن الأيهم.

وقال ابن عبد البرّ: كان عليّ يُثني عليه ويفضّله، وكانت له عبادة. واجتهاد، ولما بلغ عائشة قتله حزنت عليه جدّاً، وتولت تربية ولده القاسم، فنشأ في حجرها، فكان من أفضل أهل زمانه.

وُلِد لمحمد بن أبى بكر: عبد الله شهيد الحرة، والقاسم لأمّ ولد، وكان القاسم فقيهاً بالحجاز فاضلاً، فولد القاسم بن محمد: عبد الرحمن بن القاسم، وأمّ فروة. فأما أم فروة بنت القاسم: فتزوّجها محمد الباقر بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبى طالب رضي الله عنهم، فأولدها: جعفراً الصادق.

قال علي باشا مبارك في "الخطط التوفيقية" عند حديثه عن جامع محمد بن أبي بكر الذي بالقاهرة: هذا المسجد في مصر القديمة بشارع باب الوداع قريباً من الباب عن يسرة السالك مشرقاً إلى باب الوداع بجوار قبر متهدم يعرف بالكردي، ويعرف هذا الجامع أيضاً بجامع الصغير، وكان يعرف بجامع زمام، وهو مقام الشعائر، وله أوقاف تحت نظر بعض الأهالي، عُرف بأبي القاسم محمد بن أبي بكر الصديق رضي الله عنهما، لأن رأسه مدفون به. وكان يعرف أيضاً بمسجد زمام. قال السخاوي في تحفة الأحباب: وبظاهر مصر قبر أبي القاسم محمد بن أبي بكر الصديق بن أبي قحافة، وقيل أنه أحرق بالنار ودفن في ذلك الموضع، فلما كان بعد سنة أتى "زمام" مولى محمد بن أبي بكر إلى الموضع فحفر عليه، فلم يجد سوى الرأس، فأخذه ومضى به إلى المسجد المعروف بمسجد زمام فدفنه فيه وبنى عليه المسجد، ويقال أن الرأس في القبلة، وبه سمي مسجد زمام. وقيل لما شق بعض أساس الدار التي كانت لمحمد بن أبي بكر، وجد رمة رأس قد ذهب فكها الأسفل، فشاع في الناس أنها رأس محمد بن أبي بكر الصديق، فتبادر الناس ونزلوا في الجدار وموضوعه قبلة للمسجد القديم، وحفروا محراب مسجد زمام، وطلب الرأس منه فلم يوجد. وحفروا أيضاً الزاوية الشرقية من هذا المسجد والمحراب القديم المجاور له والزاوية الغربية من المسجد فلم يجدوا شيئاً، وكان هذا الرأس معروفاً مشهوراً بين كيمان مصر([3]).

 

المصدر: كتاب السلالة البكرية الصديقية - الجزء الثاني ، لأحمد فرغل الدعباسي البكري.


تاريخ النشر
يوم 1 رمضان 1438 هـ / 26 مايو 2017 م


([1])  الإستيعاب في معرفة الأصحاب 3/ 1367 ، معرفة الصحابة لأبي نعيم 1/ 168 ، أسد الغابة ط العلمية 5/ 97 ، سير أعلام النبلاء ط الحديث 4/ 467 ، الإصابة في تمييز الصحابة 6/ 193-194 ، البداية والنهاية ط الفكر 7/ 318 ، تهذيب الكمال في أسماء الرجال 24/ 543 ، الثقات لإبن حبان 3/ 368 ، بدائع الزهور في وقائع الدهور 1-1/ 115-116 ، المواعظ والإعتبار بذكر الخطط والآثار 4/ 156 ، مرشد الزوار إلى قبور الأبرار 1/ 662-664 ، تاريخ الخميس في أحوال أنفس النفيس 2/ 239 ، سمط النجوم العوالي في أنباء الأوائل والتوالي 2/ 463 ، كتاب الولاة وكتاب القضاة للكندي 1/ 26 ، المعارف لإبن قتيبة 1/ 175 ، نهاية الأرب في فنون الأدب 7/ 167 ، النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة 1/ 110 ، البستان الجامع لجميع تواريخ أهل الزمان صـ 122 ، تاريخ ابن خلدون 2/ 642 ، جمهرة نسب قريش وأخبارها 2/ 605 ، التبيين في أنساب القرشيين 1/ 279 ، لسان الميزان 4/ 136 ، مساجد مصر وأولياؤها الصالحون 2/ 20-25 ، بيت الصديق صـ 264-265 ، مراقد المعارف 2/ 244-249

([2])  الإستيعاب في معرفة الأصحاب 3/ 1367

([3])  الخطط التوفيقية 5/ 102