سلالة الصديق

historybio.jpg

 سيَر ، وتراجم الأعلام من ذرية سيدنا أبي بكر الصديق – رضي الله عنه ، الرجال والنساء والأسباط ، على مر الزمان ، وعلى إمتداد العمران والبلدان .

مرتبة تنازلياً حسب عام الوفاة ، وهو قسم متجدد بإستمرار إن شاء الله تعالى. 

ذات النطاقين

ذات النطاقين([1]): السيدة أسماء بنت أبي بكر الصديق بن أبي قحافة عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم. وأمها قتيلة بنت عبد العزى بن أسعد بن جابر بن مالك بن حِسْلِ بن عامر بن لؤي. وهي أخت عبد الله بن أبي بكر الصديق لأبيه وأمه. وهي أكبر من أختها لأبيها "أم المؤمنين عائشة" بعشر سنين.

أسلمت قديماً بمكة بعد إسلام سبعة عشر شخصاً، وبايعت رسول الله، وهي ذات النطاقين. أخذت نطاقها فشقته بإثنين فجعلت واحداً لسفرة رسول الله والآخر عصاماً لقربته ليلة خرج رسول الله وأبو بكر إلى الغار. فسُمّيت ذات النطاقين. ومن حُسن إسلامها أن قدمت عليها أمها "قتيلة بنت عبد العزى"، وكان أبو بكر طلقها في الجاهلية، فجاءت لإبنتها بهدايا زبيب وسمن وقرط، فأبت أسماء أن تقبل هديتها أو أن تُدخِلها بيتها، وأرسلت إلى عائشة: سلي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقالت: لتدخل بيتها ولتقبل هديتها.

واحتمل أبو بكر معه ماله كله لمّا خرج مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مهاجراً، وقدره خمسة الآف درهم أو ستة ألاف فانطلق بما معه، ثم دخل جدّها أبو قحافة عليها وقد ذهب بصره فقال: والله إني لأراه قد فجعكم بماله كما فجعكم بنفسه، فقالت له: كلّا يا أبت. إنه قد ترك لنا خيراً كثيراً، فأخذت أحجاراً فوضعتها في كوة في البيت الذي كان أبوها يضع ماله فيها ثم وضعت عليه ثوباً ثم أخذت بيده فقالت: يا أبت ضع يدك على هذا المال، فوضع يده عليه وقال: لا بأس إن كان ترك لكم هذا فقد أحسن وفي هذا بلاغ لكم. والحقيقة إن أبا بكر لم يترك لعياله شيئاً، ولكنها أرادت بعملها هذا أن تسكن روع ذلك الشيخ.

وُلِدت أسماء ولأبيها الصديق يوم وُلِدت أحد وعشرون سنة، وتزوجها الزبير بن العوام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي، وما له في الأرض مال ولا مملوك ولا أي شيء غير فرسه، فكانت تعلف فرسه وتكفيه مؤونته وتسوسه وتدق النوى الناضحة وتسقيه الماء وتعجن. وكان الزبير شديداً عليها، فأتت أباها وشكت ذلك إليه، فقال: يا بنية إصبري فإن المرأة إذا كان لها زوج صالح ثم مات عنها فلم تتزوج بعده، جُمِع بينهما في الجنة. وشهدت أسماء مع زوجها وقعة اليرموك وأبلت فيه بلاءً حسناً. واتخذت خنجراً زمن سعيد بن العاص في الفتنة فوضعتها تحت مرفقها، فقيل لها: ما تصنعين بهذا؟ قالت: إن دخل علي لص بعجت بطنه. وفرض لها عمر بن الخطاب ألف درهم. وَوَلَدت للزبير: عبد الله وعروة والمنذر وعاصماً والمهاجر وخديجة الكبرى وأم الحسن وعائشة. وكانت أسماء شاعرة ناثرة ذات منطق وبيان، فقالت في زوجها الزبير لما قتله عمرو بن جرموز المجاشعي بوادي السباع وهو منصرف من وقعة الجمل:

غدا ابن جرموز بفارس بهمة
يا عمرو لو نبهته لوجدته
ثكلتك أمك إن قتلت مسلماً
 

 

يوم الهياج وكان غير معرّد
لا طائشا رعش الجنان ولا اليد
حلت عليك عقوبة المتعمد
 

وقال وهي ترقص ولدها عبد الله بن الزبير:

أبيض كالسيف الحسام الأبريق
ظني به ورب الظن تحقيق
 

 

بين الحواري والصديق
والله أهل الفضل أهل التوفيق
 

وكانت مع عبد الله ابنها حتى قتل، وقالت يومها:

ليس لله محرم بعد قوم
قتلتهم جفاة عك ولخم
 

 

قتلوا بين زمزم والمقام
وصداء وحمير وجذام
 

قال علماء السير: فلم تزل الحرب إلى قبيل مقتل ابن الزبير، فتفرق عامة أصحابه وخذلوه، وخرج عامة أهل مكة إلى الحجاج في الأمان، حتى ذُكر أن ولديه حمزة وخُبيب أخذوا لأنفسهما أمانا، فدخل عبد الله بن الزبير على أمه أسماء حين رأى من الناس ما رأى من الخذلان، فقال لها: خذلتني الناس حتى ولدي وأهلي، فلم يبق معي إلا من ليس عنده من الدفع أكثر من ساعة والقوم يعطونني ما أردت من الدنيا، فما رأيك؟ فقالت: أنت والله يا بني أعلم بنفسك، إن كنت تعلم أنك على حق وإليه تدعو فامض له، وقد قتل عليك أصحابك، ولا تمكن من رقبتك فينقلب بها غلمان بني أمية، وإن كنت إنما أردت الدنيا فبئس العبد أنت، أهلكت نفسك وأهلكت من قتل معك. وإن قلت: كنت على الحق فلما وهن أصحابك ضعفت، فليس هذا فعل الأحرار ولا أهل الدين، وكم خلودك في الدنيا! القتل القتل أحسن.

فدنا ابن الزبير فقبل رأسها وقال: هذا والله رأيي، والذي قمت به ما ركنت إلى الدنيا ولا أحببت الحياة فيها، وما دعاني إلى الخروج إلا الغضب للَّه عز وجل أن تستحل حرمته، ولكنني أحببت أن أعلم رأيك في مثل ذلك، فانظري يا أمي فإني مقتول في يومي هذا، فلا يشتد حزنك، وسلمي الأمر للَّه، فإن ابنك لم يتعمد إتيان منكر، ولا عمدا بفاحشة، ولم يجر في حكم الله عز وجل، ولم يتعمد ظلم مسلم ولا معاهد، ولم يبلغني ظلم عن عمالي فرضيت به بل أنكرته، ولم يكن شيء آثر عندي من رضا ربي عز وجل، اللَّهمّ إني لا أقول هذا تزكية مني لنفسي ، أنت أعلم بي، ولكن أقوله تعزية لأمي لتسلو عني. فقالت: إني لأرجو من الله عز وجل أن يكون عزائي فيك حسناً إن تقدمتني، أخرج حتى أنظر ما يصير أمرك، فقال: جزاك الله يا أماه خيراً، ولا تدعي الدعاء لي قبل وبعد. فقالت: لا أدعه أبداً، فمن قتل على باطل فقد قتلت على حق. ثم قالت: اللَّهمّ ارحم طول ذلك القيام في الليل الطويل، وذلك النحيب في الظلماء، وذلك الصوم في هواجر المدينة ومكة، وبره بأبيه وبي، اللَّهمّ إني قد أسلمته لأمرك فيه ورضيت بما قضيت فأثبني في عبد الله ثواب الصابرين الشاكرين.

وبعد مقتله أتت أسماء الحجاج بن يوسف الثقفي، فقالوا لها: إنه ليس هنا. فقالت: فإذا جاء فقولوا له يأمر بهذه العظام أن تنزل وأخبروه أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول إن في ثقيف رجلين: كذاب ومبير. وكان الحجاج قد صَلب عبد الله بن الزبير بعد أن قتله.

وقيل: إن الحجاج حلف أن لا ينزله من تلك الخشبة حتى تشفع فيه أمه فبقي سنة. ثم مرّت تحته أمه فقالت: أما آن لهذا أن ينزل. وكانت أسماء قبل ذلك تقول: اللهم لا تمتني حتى تقر عيني بجثته. فما أتى عليها بعد ذلك جمعة حتى ماتت.

وذكروا: أن الحجاج دخل على أسماء بنت أبي بكر فقال لها: إن ابنك ألحد في هذا البيت وأن الله قد أذاقه من عذاب أليم وفعل به وفعل. فقالت له: كذبت، كان براً بالوالدين صواماً قواماً، ولكن والله لقد أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه سيخرج من ثقيف كذابان الآخر منهما شر من الأول وهو مبير. وقال الحجاج لأسماء بعد قتل عبد الله: كيف رأيتني صنعت بابنك؟ فقالت: أفسدت عليه دنياه، وأفسد عليك آخرتك.

وبقيت مائة سنة حتى عميت، وماتت بمكة بعد قتل عبد الله بن الزبير بليال، وكان مقتله يوم الثلاثاء لسبع عشرة ليلة خلت من جمادى الأولى سنة 73 هـ / 692 م. وروي عن هشام بن عروة بن الزبير، عن أبيه، قال: كانت أسماء بنت أبي بكر قد بلغت مائة سنة، لم يقع لها سن، ولم ينكر من عقلها شيئاً.

وكانت رحمها الله ذات جود وكرم لا تدخر شيئاً لغد. فكانت تمرض المرضة فتعتق فيها كل مملوك لها، وكانت تقول لبناتها وأهلها: أنفقن وتصدقن ولا تنتظرن الفضل فإنكن إن انتظرتن الفضل لم تفضلن شيئاً وإن تصدقن لم تجدن فقده. وقد روت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم 58 حديثاً وقيل 56 حديثاً.

وكان يقال: "لو كان أبناء أبي بكر كبناته لعَزّ على عمر نيل الخلافة"، لأن عائشة صاحبة يوم الجمل، وأسماء هى التي حضّت ابنها عبد الله بن الزبير على صدق القتال والجد فى المكافحة والتحصن بالكعبة، ولما قال لها عبد الله وقد اشتد به الأمر فى محاصرة الحجاج إياه: يا أم إني لا أخاف القتل ولكن أخاف المثلة، فقالت: "يا بني إن الشاة المذبوحة لا تألم للسلخ" أو "يا بني لا يضر الشاة سلخها بعد ذبحها" فسار قولها مثلاً. ولما قُتل عبد الله وصُلِب تقدّمت أسماء إلى الحجاج، فقالت له: يا حجاج أما آن لراكبك أن ينزل؟ فأمر بإنزاله، وكان آلى على نفسه ألا ينزله أو تتكلم أمه فى شانه.

المصدر: كتاب السلالة البكرية الصديقية - الجزء الثاني ، لأحمد فرغل الدعباسي البكري.


تاريخ النشر
يوم 1 رمضان 1438 هـ / 26 مايو 2017 م


([1])  الطبقات الكبرى ط العلمية 8/ 196 ، معرفة الصحابة لابن منده 1/ 982 ، رجال صحيح مسلم 2/ 417 ، معرفة الصحابة لأبي نعيم 6/ 3253 ، صفة الصفوة 1/ 333-334 ، المنتظم في تاريخ الملوك والأمم 6/ 125-126 ، الكامل في التاريخ 3/ 401-402 ، تاريخ الإسلام ت بشار 2/ 759 ، البداية والنهاية ط إحياء التراث 8/ 364 ، تاريخ دمشق لإبن عساكر 28/ 226 ، التبيين في أنساب القرشيين 1/ 280-281 ، تسمية من روي عنه من أولاد العشرة 1/ 79 ، الأعلام للزركلي 1/ 305 ، ثمار القلوب في المضاف والمنسوب 1/ 294-295 ، أعلام النساء في عالمي العرب والإسلام 1/ 47-53